فصل: مقدمة ابن قتيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مقدمة ابن قتيبة:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه الذي نهج لنا سبل الرّشاد، وهدانا بنور الكتاب، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا بل نزّله قيّما مفصّلا بيّنا: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيل مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] وشرّفه، وكرّمه، ورفعه وعظّمه، وسماه روحا ورحمة، وشفاء وهدى، ونورا.
وقطع منه بمعجز التّأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النّظم عن حيل المتكلّفين، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التّلاوة، ومسموعا لا تمجّه الآذان، وغضّا لا يخلق على كثرة الرد، وعجيبا.
لا تنقضي عجائبه، ومفيدا لا تنقطع فوائده، ونسخ به سالف الكتب.
وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه، وذلك معنى قول رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلم: «أوتيت جوامع الكلم».
فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن في (أخذ العفو): صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين.
وفي (الأمر بالعرف): تقوى اللّه وصلة الأرحام، وصون اللّسان عن الكذب، وغضّ الطّرف عن الحرمات.
وإنما سمّي هذا وما أشبهه (عرفا) و(معروفا)، لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئنّ إليه.
وفي (الإعراض عن الجاهلين): الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السّفيه، ومنازعة اللّجوج.
وقوله تعالى- إذ ذكر الأرض فقال: {أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)} [النازعات: 31] كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام، من العشب والشجر، والحب والثمر والحطب، والعصف واللّباس، والنّار والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
وينبئك أنه أراد ذلك قوله: {مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)} [النازعات: 33].
وفكّر في قوله تعالى حين ذكر جنات الأرض فقال: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] كيف دلّ على نفسه ولطفه، ووحدانيته، وهدّى للحجّة على من ضلّ عنه، لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتّربة، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم، ولا يقع التّفاضل في الجنس الواحد، إذا نبت في مغرس واحد، وسقي بماء واحد، ولكنّه صنع اللطيف الخبير.
ونحو قوله: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ} [الروم: 22] يريد اختلاف، اللّغات، والمناظر، والهيئات.
وفي قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} [النمل: 88] يريد:
أنها تجمع وتسيّر، فهي لكثرتها كأنها جامدة واقفة في رأي العين، وهي تسير سير السحاب.
وكل جيش غصّ الفضاء به، لكثرته، وبعد ما بين أطرافه، فقصر عنه البصر- فكأنه في حسبان الناظر واقف وهو يسير.
وإلى هذا المعنى ذهب الجعديّ في وصف جيش فقال:
بأرعن مثل الطّود تحسب أنهم وقوف لحاج والرّكاب تهملج

وفي قوله جلّ ذكره: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياة يا أُولِي الْأَلْبابِ} [البقرة: 179] يريد أن سافك الدّم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهمّ بالقتل، فكان في القصاص له حياة وهو قتل.
وأخذه الشاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام

يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب فكفّوا عن القتل، فكان في ذلك حياة.
وأخذه المتمثّلون فقالوا: (بعض القتل إحياء للجميع).
وقالوا: (القتل أقلّ للقتل).
وتبيّن قوله في وصف خمر أهل الجنة: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)} [الواقعة: 19] كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر، وجمع بقوله: {ولا ينزفون} عدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)} [يونس: 42، 43] كيف دلّ على فضل السّمع على البصر، حين جعل مع الصمم فقدان العقل، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر.
وقوله: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 145، 146] فدلّ على أن المنافقين شرّ من كفر به، وأولاهم بمقته، وأبعدهم من الإنابة إليه، لأنه شرط عليهم في التوبة: الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم.
ثم شرط الإخلاص، لأن النّفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب.
ثم قال: {فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] ولم يقل: فأولئك هم المؤمنون.
ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] ولم يقل وسوف يؤتيهم اللّه، بغضا لهم، وإعراضا عنهم، وحيدا بالكلام عن ذكرهم.
وقوله في المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] فدلّ على جبنهم، واستشرافهم لكل ناعر، ومرهج على الإسلام وأهله.
وأخذه الشاعر- وأنّى له هذا الاختصار- فقال:
ولو أنّها عصفورة لحسبتها مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما

يقول: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين.
وقال الآخر:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكرّ عليكم ورجالا

وهذا في القرآن أكثر من أن نستقصيه.
وقد قال قوم بقصور العلم وسوء النظر في قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ} [الكهف: 17]: وما في هذا الكلام من الفائدة؟
وما في الشمس إذا مالت بالغداة والعشيّ عن الكهف من الخبر؟
ونحن نقول: وأيّ شيء أولى بأن يكون فائدة من هذا الخبر؟ وأيّ معنى ألطف مما أودع اللّه هذا الكلام؟
وإنما أراد عز وجل: أن يعرّفنا لطفه للفتية، وحفظه إياهم في المهجع، واختياره لهم أصلح المواضع للرّقود، فأعلمنا أنه بوّأهم كهفا في مقنأة الجبل، مستقبلا بنات نعش، فالشمس تزورّ عنه وتستدبره: طالعة، وجارية، وغاربة. ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتلفحهم بسمومها، وتغيّر ألوانهم، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا في فجوة من الكهف- أي متّسع منه- ينالهم فيه نسيم الريح وبردها، وينفي عنهم غمّة الغار وكربه.
وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى، بأعجب من هذا جهلهم بمعنى قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] حتى أبدأوا في التعجّب منه وأعادوا، حتى ضربه بعض المجّان لبارد شعره مثلا.
وهل شيء أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية؟ لأنه أراد: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم اللّه بالعتوّ، وأبادهم بالمعصية، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا كانت لشرب أهلها قد عطّل رشاؤها، وغار معينها، وقصرا بناه ملكه بالشّيد قد خلا من السّكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة اللّه وبأسه، مثل الذي نزل بهم.
ونحوه قوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم: فكان سليمان صلّى اللّه عليه وآله وسلم، إذا مرّ بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأوّلون؟
وقال: أبو بكر رضي اللّه عنه، في بعض خطبه: أين بانو المدائن ومحصّنوها بالحوائط؟ أين مشيّدو القصور، وعامروها؟ أين جاعلو العجب فيها لمن بعدهم؟ تلك منازلهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية، هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
وهذا الأسود بن يعفر يقول:
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسّدير وبارق والقصر ذي الشّرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيّرها لطيب مقيظها كعب بن مامة وابن أم دؤاد

جرت الرياح على محلّ ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد

فأرى النعيم وكلّ ما يلهى به يوما يصير إلى بلىّ ونفاد

وهذه الشّعراء تبكي الديار، وتصف الآثار، وإنما تسمعهم يذكرون دمنا وأوتادا، وأثافيّ ورمادا، فكيف لم يعجبوا من تذكّرهم أهل الديار بمثل هذه الآثار، وعجبوا من ذكر اللّه، سبحانه أحسن ما يذكر منها وأولاه بالصّفة، وأبلغه في الموعظة؟ اهـ.

.مقدمة الماوردي:

قال رحمه الله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم ومن علينا بكتابه المبين، وخصه بمعجز دل على تنزيله، ومنع من تبديله، وبين به صدق رسوله، وجعل ما استودعه على نوعين: ظاهرًا جليًا وغامضًا خفيًا يشترك الناس في علم جلية ويختص العلماء بتأويل خفية حتى يعم الإعجاز، ثم يحصل التفاضل والامتياز.
ولما كان ظاهر الجلي مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلا من وجهين: نقل واجتهاد جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض تصوره وفهمه، وجعلته جامعًا بين أقاويل السلف والخلف، وموضحًا عن المؤتلف والمختلف، وذاكرًا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل، ليتميز ما قيل مما قلته ويعلم ما استخرج مما استخرجته.
وعدلت عما ظهر معناه من فحواه اكتفاء بفهم قارئه وتصور تالية، ليكون أقرب مأخذًا وأسهل مطلبًا. وقدمت لتفسيره فصولا، تكون لعمله أصولا، يستوضح منها ما اشتبه تأويله، وخفي دليله، وأنا أستمد الله حسن معونته، وأسأله الصلاة على محمد وآله وصحابته. اهـ.